في إحدى ليالي عام 1978، كان تيد هِنتر يقود سيارة مستأجرة على طريق مظلم في الريف الإنجليزي. كان هنتر متسابقًا للدراجات النارية يبلغ من العمر 27 عامًا من فلوريدا، وقد فاز للتو بالمركز الثامن في سباق الجائزة الكبرى بفنزويلا، وهو السباق الأول لبطولة العالم لعام 1978. كان يحلم بسباقه القادم في إسبانيا عندما رأى السيارة الأخرى تسير باتجاهه مباشرةً.
كان هنتر يقود سيارته على الجانب الأيمن من الطريق، تمامًا كما يفعل في موطنه أمريكا. غريزيًا، انحرف يمينًا عندما رأى السيارة تقترب. لكن السائق الآخر، المُعتاد على نمط قيادة السيارات في بريطانيا، انحرف إلى اليسار، ليحدث بينهما تصادمًا وجهاً لوجه. كَسَر وجه هنتر الزجاج الأمامي للسيارة، وتسببت الشظايا المتطايرة له في انفصال بشبكية العين بالإضافة لثمانين غرزة في وجهه – بما في ذلك ثلاث عشرة غرزة في كل مقلة عين. وبينما كان يرقد في المستشفى، قال لنفسه أنه ربما سيضطر لعدم المشاركة في السباق القادم.
كانت أول عملية لإعادة ربط شبكية عينه ناجحة، واستعاد هنتر بصره في عين واحدة – حيث كان بإمكانه رؤية الضوء وبعض الألوان، ولكن مع إعادة تشكُّل الأنسجة، انفصلت الشبكية مرة أخرى. عندما استيقظ بعد العملية الثانية، أدرك رجل الراليات الشاب أن الأمور مختلفة هذه المرة. بعد العملية الأولى، كان كل شيء مضيئًا. لكن في المرة الثانية، كان كل شيء مظلمًا. يستعيد هِنتَر هذه اللحظة قائلا: “كان لدي حوالي عشر دقائق من اليأس في المستشفى، عندما شعرت بروح هادئة للغاية في الغرفة. ربما كان ملاكًا قال لي بشكل أو بآخر: لا تبتئس ولا تفقد الأمل. كل شيء سيكون على ما يرام. فكّرتُ في نفسي حينها أن المكفوفين موجودون في هذا العالم منذ آلاف السنين، وإذا كان بوسعهم فعلها، فيمكنني أنا أيضا أن أفعلها.”
انتهت أيام سباقات الدراجات بالنسبة لتيد هنتر، لكنه لم يشعر بالضياع كلياً. فقبل أن يبدأ مسيرته في ركوب الدراجات النارية، كان قد حصل على شهادة في الهندسة الميكانيكية من جامعة فلوريدا، حتى أنه كان لديه العديد من براءات الاختراع. بيد أن فقدانه للبصر جعل من عمله كمهندس ميكانيكي صعبًا. عندما استشار قسم خدمات المكفوفين في فلوريدا، أخبره أحد المستشارين أن برمجة الكمبيوتر أصبحت مهنة شائعة للأشخاص المكفوفين، وهو ما جعله يعود إلى الجامعة للحصول على درجة علمية في علوم الكمبيوتر. لقد تعلم البرمجة عن طريق كتابة الشفرات على الجهاز، وجعل أحد المتطوعين يقرأ له الشاشة،كما كان أحد الطلاب يقرأ له كتب البرمجة، ليسجلها على أشرطة كاسيت ويستمع لها. يقول هنتر أن ذلك كان بطيئًا جدًا ومملًا، لكنه تعلم كيفية برمجة أجهزة الكمبيوتر على أي حال.
استمر على هذا الوضع، حتى حصُل على ما أسماه “الكمبيوتر الناطق”، حيث كان مزوَّدا بأداة عتيقة لقراءة الشاشة أنتجها شخص يُدعى دين بلازي، وكانت تقرأ الكلمات حرف بحرف، فمثلا كلمة “print” لم تكُن تُنطَق كمقطع واحد، لكن كأحرف متفرقة “P, R, i, n, t”. ومع ذلك، كان هذا بمثابة تغيير لقواعد اللعبة بالنسبة له، حيث أصبح قادراً على أداء مهام وظيفته بشكل مستقل. عندما ظهر الإصدار التالي من هذه الأداة – والذي يمكنه قراءة كلمة في كل مرة، دَأَب هنتر على الاتصال بالشركة للحصول على الدعم الفني وأصبح المستخدم الأكثر شهرة لديهم، وسرعان ما تلقى عرض للتوظيف من قِبَل السيد بلازي نفسه، وهو رئيس الشركة – الذي سيُسجل في التاريخ كواحد من الرواد المبصرين القلائل في صناعة التكنولوجيا المساعدة. وبعد سنوات، ما زال هنتر يتذكر مؤسسة خدمات الكمبيوتر في ماريلاند، والبيئة الترحيبية والزملاء الذين احترموه.
لم يكن هنتر مجرد مهندس فحسب، بل كان متحمساً للغاية للمنتج. في أحد الأيام، تم إرساله في رحلة إلى شيكاغو لتدريب عميل رفيع المستوى، وهو رجل أعمال يدعى بيل جويس على استخدام قارئ الشاشة. وكان انفجار في حادث صناعي قد أدى إلى إصابة جويس بالعمى والصم الجزئي. أصبح الرجلان صديقين حميمين، بسبب حبهما للتزلج على الماء. فعلى الرغم من أن هنتر قد فاته فرصة أن يصبح بطلاً للدراجات النارية، إلا أنه سيفوز بالميدالية الذهبية كأفضل متزلج في بطولة العالم للتزلج على الماء لعام 1991 بالإضافة إلى ست بطولات وطنية أخرى. أثناء تدريب جويس، كان هنتر يطرح أفكارًا حول الميزات التي يرغب في إضافتها لبرامج قراءة الشاشة. في النهاية، اقترح جويس أن يُكَوِّنوا شركة معًا، وفي 1987، تم تأسيس شركة Henter-Joyce، وسرعان ما أطلقوا الإصدار الأول من قارئ الشاشة لنظام DOS، وأطلقوا عليه اسم JAWS، والذي يرمز إلى (Job Access With Speech)، أي وظيفة الوصول عبر النطق. ولكن اسم البرنامج أيضًا يتشابه مع أحد الأفلام السينمائية الشهيرة في السبعينات، وهو ما يحمل إشارة مرحة لقارئ شاشة DOS آخر يسمى Flipper، والذي يتشابه اسمه مع الدلفين في برنامج تلفزيوني ذائع الصيت في الستينيات.
لم يكن JAWS هو قارئ الشاشة الوحيد في السوق، ولكنه كان يحتوي على العديد من المزايا الفريدة، مثل المؤشر المزدوج، وهو عبارة عن مؤشر للتنقل بين العناصر على الصفحة، وآخر يمكنه التحرك بحرية مثل كيفية تحرك أعيننا حول الشاشة. كما كان يحتوي على دعماً مدمجاً لطريقة برايل، ولغة برمجة نصية للمستخدمين لتخصيص آلية تحكمهم بالبرنامج. وبحلول ذلك الوقت، مرت صناعة الكمبيوتر بتغيير جذري، حيث بدأ الجميع ينتقل إلى أنظمة التشغيل الرسومية، مثل Windows، وبدأ هنتر في تلقي مكالمات قلقة من عُملائه يتساءلون عن الوقت الذي سيصدر فيه نسخة من قارئ الشاشة تدعم Windows وأن الكثير سيفقدون وظائفهم إذا لم يتمكنو من استخدامه. لقد أحدثت القفزة المفاجئة من الواجهة النصية إلى الواجهة الرسومية تحديًا رهيبا، فقد كان لابد من إعادة هيكلة نموذج البيانات الكامن وراء مفهوم قارئ الشاشة بالكامل. ومع ذلك، وفي شتاء عام 1995، أصدرت شركة Henter-Joyce برنامج JAWS لنظام التشغيل Windows قبل أشهر من المنافسين. كان JAWS جيدًا لدرجة أن Microsoft اشترت شفرته البرمجية وبنيت فوقها لإنشاء نسختها الأصلية من قارئ الشاشة. وعلى الرغم من أن مشروع microsoft لإنشاء قارئ شاشة متكامل لم يذهب بعيداً، إلا أن JAWS سيمضي قُدُما ليمتلك غالبية حصة السوق.
إذا كنت مبصرًا، فمن المحتمل أنك نادرًا ما فكرت في كيفية قيام مهندس البرمجيات بكتابة الأكواد إذا كان كفيفا، بل ربما لم تفكر أصلا في كيفية استخدام المكفوفين لأجهزة الكمبيوتر. أما إذا كنت من مستخدمي نظام Mac، فربما تكون قد نظرت إلى VoiceOver – وهو قارئ الشاشة المدمج بنظام macOS، على أنه مصدر إزعاج لا يكفّ عن التحدُّث عندما تضغط عن غير قصد على مجموعة معينة من المفاتيح، لتبحث فقط عن كيفية إسكاته بسرعة. يسمح قارئ الشاشة لمستخدميه بالتعامل مع الكمبيوتر عبر تحويل النص إلى صوت، أي أن الصوت هو الوسيلة الرئيسية لعرض المعلومات المرئية. وبعبارة أخرى، فإن برامج قراءة الشاشة بالنسبة للمستخدمين المكفوفين أو ضعاف البصر، تساوي الشاشات بالنسبة للمستخدمين المبصرين.
إن سوق برامج قراءة الشاشة يعد سوقاً متخصصاً بدرجة كبيرة؛ ففي عام 2020، بلغ العدد التقديري للمكفوفين في جميع أنحاء العالم حوالي 49.1 مليون شخصاً، وهو ما يوازي عدد سكان أسبانيا أو كوريا الجنوبية، كما أن هناك حوالي 255 مليون شخص إضافي يعانون من إعاقة بصرية متوسطة إلى شديدة. هؤلاء الملايين قد يحتاجون إلى استخدام أدوات تكبير الشاشة وتحسين الرؤية، أو أجهزة الدعم المستندة لطريقة برايل، أو برامج قراءة الشاشة. وعلى الرغم من صعوبة الوصول إلى إحصائيات دقيقة عن المبرمجين المكفوفين، إلا أنه في استطلاع حديث أجرته Stackoverflow للمطورين، أجاب 1،142 شخصًا، حوالي 1.7% من إجمالي المشاركين، بأنهم مكفوفون أو يجدون صعوبة في الرؤية.
لقد مرت ما يقرب من ثلاثة عقود منذ إطلاق JAWS لنظام التشغيل Windows، والتي ربما دخل خلالها عشرات الآلاف من المهندسين المكفوفين وضعاف البصر في مجال تطوير البرمجيات. وتمامًا كما كان في زمن هنتر، فإنه مجال شامل نسبيًا للأشخاص المكفوفين، نظرًا لأن حواجز إمكانية الوصول أقل مما هي عليه في العديد من الوظائف العملية في هذه الأيام. يعود الفضل في هذا إلى حد كبير إلى JAWS، وهو البرنامج الذي ابتكره مبرمج كفيف.
يعود JAWS إلى نفس الجيل من البرامج مثل المتصفح الشهير Internet Explorer 1.0، والذي تم إيقافه رسميًا الشهر الماضي بعد 27 عامًا. والحقيقة أن القليل جدا من البرامج نجحت في البقاء فعّالة ومُحدَّثة طول هذه الفترة، وحقيقةُ أن JAWS احتفظ بحصة الاستخدام الخاصة به طول هذه المدة تجعله أكثر ندرة وبراعة.
فمثلا، متصفح Mosaic، الذي تم الإعلان عنه في عام 1994 باعتباره “الواجهة القياسية العالمية لتصفح الإنترنت”، استمر لمدة عامين فقط في القمة قبل أن تستحوذ Netscape على السوق. وبعد ذلك بثلاث سنوات، كان غالبية الأشخاص يستخدمون Internet Explorer، والذي طغى عليه Chrome بعد اثني عشر عامًا فقط. وفي حين كان Chrome هو الأفضل لمدة عقد من الزمان تقريبًا، كان JAWS هو المعيار الذهبي لبرامج قراءة الشاشة لما يقرب من ثلاثة أضعاف هذه الفترة.
وبالعودة إلى المقارنة بين قارئ الشاشة وشاشات العرض التي يستخدمها المبصرون، فإننا إذا نظرنا لشاشة جديدة عالية الدقة وشاشة قديمة أقل جودة، فإن كلاهما سيقوم بنفس المهمة بدرجة ما. تعد الشاشة عالية الدقة أفضل، لكن الشاشة ذات الدقة المنخفضة لا تزال عبارة عن شاشة عرض. لكن على العكس من ذلك، فإن قارئ الشاشة السيئ ليس سيئًا مثل الشاشة القديمة. تخيل شاشة بها مساحات من البوصات الميتة، أو غير قادرة على عرض كائنات معينة على الشاشة، أو تقوم بعرض الألوان بشكل غير صحيح أو حتى عكسها تمامًا، أو إظهار عناصر عدة بعيدًا عن المكان الذي ينبغي أن تكون فيه. بعبارة أخرى، برامج قراءة الشاشة السيئة ليست فقط متواضعة، بل هي مُخادعة. لذا، فإن هناك سبباً وجيهاً لبقاء JAWS مشهورًا جدًا، حتى بالرغم من سعره الباهظ. تبلغ حاليا تكلفة الترخيص المنزلي من jaws حوالي 1000 دولار، و1،285 دولارًا للنسخة الاحترافية منه، بالإضافة إلى تكلفة التحديثات السنوية. التراخيص السنوية التي تكلف 95 دولارًا (90 دولارًا للطلاب) متوفرة فقط في الولايات المتحدة، في حين أن 89% من الأشخاص الذين يعانون من فقدان البصر يعيشون في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل.
لفترة طويلة، لم يكن قارئ الشاشة الجيد والموثوق خيارًا متاحًا لغالبية المكفوفين أو ضعاف البصر في جميع أنحاء العالم، استمر ذلك حتى العام 2019، حينما نجح قارئ شاشة مجاني ومفتوح المصدر يُدعى NVDA في تجاوز JAWS أخيرا من ناحية شعبية الاستخدام. استعاد JAWS سيطرته من جديد على سوق مستخدمي برامج قراءة الشاشة في 2020، ولكن بفارق ضئيل جدا عن NVDA، وهو اختصار لِـ (non-visual desktop access)، أي الوصول غير المرئي للحاسب. بدأت هذه الثورة في إمكانية الوصول في مكان غير متوقع، إنه معسكر موسيقي للأطفال في بلدة ميتاجونج الأسترالية الصغيرة.
في عام 1994، التقى مايكل كوران البالغ من العمر 10 سنوات بجيمي تيه البالغ من العمر تسع سنوات في معسكر موسيقي لمدة أسبوع للطلاب القارئين ببرايل من جميع أنحاء أستراليا. رأى الطفلين أن هناك الكثير من التشابه في الصفات فيما بينهما، وسرعان ما ارتبطا ببعضهما على خلفية اهتمامهما المشترك بأجهزة الكمبيوتر. كان تيه مهتمًا بالبرمجة منذ أن حصل على أول كمبيوتر خاص به، والذي كان من نوع Commodore 64. ولأن الكومودور64 لم يكن يحتوي على قارئ شاشة، كان على تيه، مثل هنتر تماما، إقناع أشخاص آخرين بأن يقرأوا له محتوى الشاشة. لكنه بعد ذلك، وفي سن السبع سنوات، حصل على حاسوب من نوع Apple II، والذي كان به قارئ شاشة، وهو ما أمكنه أخيرًا من الوصول إلى كل شيء على الكمبيوتر بمفرده. يقول تيه إن والده كان عليه أن يقرأ له كتب البرمجة، لأن الكتب الإلكترونية لم تكن شائعة الاستخدام في ذلك الوقت، وبالرغم من أن هذا الأمر كان مملاً جدا بالنسبة لوالده، إلا أنه كان يجد فيه متعة كبيرة.
بعد بضع سنوات، بدأ كوران وتيه في الاشتراك سوياً في إنتاج الموسيقى والبرامج، حيث غالبا ما كانت مشاريعهما تمتزج في الهدف. فمثلا كان أحد المشاريع التي عمِلا عليها عبارة عن إضافة لتسهيل الوصول إلى برامج الهندسة الصوتية، مما ساعد الأشخاص المكفوفين على إنتاج الموسيقى وهندسة الصوت. وكثير من الأحيان، كانا يمضيان ليالٍ في منازل بعضهم البعض، منغمسين في المحادثات الفلسفية العميقة في وقت متأخر من الليل. وكان نفس السؤال يطرح نفسه مرارًا وتكرارًا: لماذا لا يوجد قارئ شاشة مجاني للأشخاص المكفوفين؟ لماذا يجب أن يُكلِّفَ هذا النوع من البرامج آلاف الدولارات؟
في عام 2006، أخذ كوران استراحة من الجامعة. ومع وجود شيء من وقت الفراغ لديه، بدأ في وضع أفكاره موضع التنفيذ، حيث قام بإنشاء النموذج الأولي لما سيصبح مستقبلاً NVDA. يقول كوران عن هذه الفترة، أنه كان هناك الكثير من الناس، حتى في مجتمع المكفوفين، مؤهلين أكثر منه في ذلك الوقت، بل إن هناك أشخاص كانوا يكثرون الحديث عن إنشاء قارئ شاشة مجاني. ويضيف أن الاختلاف الوحيد بينه وبينهم هو أنه كتب السطر الأول من الشفرة البرمجية لقارئ الشاشة. حينئذ، كان تيه يعمل بدوام كامل، لكنه انضم لصديقه بعد بضعة أشهر. لم يكن الصديقان يعرفان مدى جدية الأمر، لكنه كان ممتعًا وكان لديهما الإيمان بأهميته، ونظرًا لأن كليهما كانا متحمسَين لفكرة البرامج مفتوحة المصدر، فقد جعلا NVDA مفتوح المصدر بالكامل.
بعد مرور عام، تواصلت شركة Mozilla العملاقة مع الثنائي، وقامت بتمويل كوران لحضور مؤتمر CSUN للتقنيات المساعِدة، وهو أكبر مؤتمر من نوعه والذي يستضيفه مركز الإعاقة في جامعة ولاية كاليفورنيا الأمريكية. وهناك، التقى كوران بالعديد من المتحمسين الذين يحملون نفس الفكر والطموح من جميع أنحاء العالم، وحينها أدركوا أن NVDA لم يعُد مشروعاً ترفيهيا وأن الأمر قد خرج عن نطاق السيطرة ويجب أن يُأخَذ بجدية أكبر. بعد ذلك بوقت قصير، قام كوران وتيه بتأسيس NV Access، وهي منظمة غير ربحية ذات هيكل حوكمة لتتولى إدارة المشروع على المدى الطويل.
في سنواته الأولى، اعتبر المستخدمون أن NVDA جيد بما يكفي للاستخدام المنزلي، ولكنه غير مناسب لبيئات العمل. وفي واقع الأمر، تركت فكرة مجانية البرنامج انطباعًا لدى الكثيرين بأن جودته لا تتساوى مع برامج قراءة الشاشة التجارية. لكن سرعان ما بدأ هذا التوجه السلبي في التغيُّر مع استمرار تطور المشروع وتوَسُّع قاعدة مستخدميه، حيث تزايد عدد المساهمين وتوسع NVDA ليدعم أكثر من 60 لغة. أرادت فرق إمكانية الوصول في الشركات الكبرى مثل Google و Microsoft و Mozilla العمل معًا لجعل NVDA يتكامل جيدًا مع منصاتهم ومتصفحاتهم.
ووفقًا لاستطلاع مستخدمي قارئ الشاشة الذي تُجريه WebAIM كل عامين، وهي مؤسسة مقرها ولاية يوتا تقدم حلول الوصول الشامل إلى الويب – كان JAWS هو قارئ الشاشة الأساسي الأكثر شيوعًا منذ بدء الاستطلاع في عام 2009. ولكن منذ عام 2019، بدأ nvda في التنافس معه بقوة.
إن الناظر لبرنامج NVDA ومسيرة تطوره، سيكتشف بسهولة أن مستخدميه متحمسين للغاية له وشغوفين جدا به، فالمناقشات التي تقارِن قارئ شاشة بآخر، تشبه إلى حد كبير في حدتها وانحيازها للصراع الدائر حول أياً من آيفون أو أندرويد أفضل، أو صراع كروم مع فايرفوكس. مثالٌ بسيط لذلك ما كتبه أحد الأشخاص للقائمة البريدية الخاصة بمستخدمي NVDA متسائلاً عن أفضل قارئ شاشة قائلا أنه سيفتح على نفسه أبواب الجحيم بطرح هذا السؤال. علاوةً على ذلك، فإن بعض أعضاء مجتمع NVDA هم من الشباب الصغار، حيث يستطيع كوران أن يتذكر الأطفال الذين اهتموا ببرنامج NVDA عندما كانوا في سن 13 عامًا أو كانوا على وشك دخول المرحلة الثانوية. سيواصل بعض هؤلاء المستخدمين الشباب دراسة علوم الكمبيوتر، ليصبحوا هم أنفسهم مطورين ومساهمين رئيسيين في نجاح المشروع. يعني هذا أن ثلاثة أجيال من المبرمجين المكفوفين استمروا في تطوير البرامج المُساعِدة لبعضهم البعض، وذلك منذ أن بدأ هنتر تصميم برنامج JAWS في الثمانينيات.
أحد هؤلاء الأطفال الذين أشار إليهم كوران هو Tuukka Ojala، وهو مطور برامج كفيف من فنلندا، والذي كان دائما شديد الفضول بشأن التكنولوجيا وأجهزة الكمبيوتر، لكن لم يكن أول جهاز كمبيوتر يستخدمه في المدرسة به قارئ شاشة مثبت. يحكي أويالا أنه عندما كان الأطفال الآخرون يتعلمون الكتابة اليدوية، كان يمضي نفس الوقت في تعلم الكتابة باللمس على آلة كاتبة مميزة بعض الشيء. تغيرت الأمور عندما حصل على جهاز الكمبيوتر الخاص به لأول مرة، وهو جهاز مزود بنسخة تجريبية من برنامج JAWS. كانت هذه النسخة تعمل لمدة 40 أو 45 دقيقة في المرة الواحدة، بعدها يضطر لإعادة تشغيل الكمبيوتر”. لم يكن قادراً على تحمل تكاليف شراء الترخيص بالطبع، ناهيك عن ثمن التحديثات المستقبلية. ومع ذلك وفي أقل من عام، استطاع تعلُم البرمجة معتمداً على هذه النسخة التجريبية
في عام 2011، تراهن اويالا مع صديق له على المدة التي يمكنه خلالها الاستمرار في استخدام NVDA بشكل كامل، والذي كان لا يزال في بداياته. في ذلك الوقت، لم يكن السبب الرئيسي لاستخدام NVDA بالنسبة لأويالا هو أنه أفضل من JAWS من ناحية المزايا والوظائف التي يقوم بها، إذ كان من المفترض أن يستمر الرهان لمدة شهر فقط. لكن وبعد أكثر من عقد من الزمان، لا يزال اويالا يستخدم NVDA على الرغم من أن السعر لم يعد يمثل مشكلة بالنسبة له. يرى اويالا إن الميزات التي يضمها NVDA ويختار تطويرها أكثر ملائمة لما يحتاجه”. فالترقيات سريعة والملحقات الإضافية للبرنامج كثيرة، مثل تلك التي تساعد في تحويل الصور إلى نصوص عبر التعرف الضوئي على الأحرف.
يعمل اويالا في شركته بشكل أساسي على معالجة الأنظمة الخلفية، وهي البرمجيات الخفية المسؤولة عن إدارة واجهات المستخدم المباشرة. يقول إنه غالبًا ما يعتبر نفسه معْنياً بتلك الأنظمة الخفية، لكنه يهتم أيضا بكيفية عمل البرنامج ككل، لذلك يقوم باختبار قابلية الاستخدام أيضًا، إذ أنه يحب أن يفهم كيف سيتعامل معه المستخدمون النهئيون على الرغم من أنه لا يتعامل كثيرا مع تطوير واجهات المستخدم، لكن عددًا قليلاً من تلك الأدوات البرمجية لا يمثل له عائقاً عند اختباره.
يرى اويالا أن إمكانية الوصول لا تُمثِّل أولوية بالنسبة لمعظم الشركات، بل قد يكون الوضع أسوأ من ذلك حين تتحول إمكانية الوصول إلى مجرد كلمات يتشدق بها البعض عند محاولة المراوغة لإثبات الحد الأدنى من الامتثال بالقوانين والسياسات ذات الصلة. ويضيف أن أكثر ما يؤرِّقه هم أولائك الناس الذين يعتقدون أن إمكانية الوصول هي مجرد ميزة، أو إضافة لطيفة للمنتج يمكن تضمينها به لاحقا، بدلاً من التفكير في الأمر منذ البداية. تخيل مثلاً إنشاء منتج بواجهة مستخدم عديمة اللون، ثم يُشرَع في إضافة الألوان لاحقًا، ستكون النتيجة الحتمية هي اكتشاف استخدام تركيبة الألوان الخاطئة.
إن الأخطاء المتعلقة بسهولة الوصول، سواء كانت تكنولوجية أم لا، قابلة للتغيير على نطاق واسع. خذ على سبيل المثال كيف تتشابه أحجام كل فئات سندات الدولار الأمريكي. كان على الأمريكيين المكفوفين، قبل عصر الهواتف الذكية، حمل جهاز منفصل – ومكلِّف – فقط للتعرف على العملات، أو وضع ثقتهم في كل شخص مبصر يقابلونه ليساعدهم في هذا الأمر، في حين تستخدم العديد من العملات الأخرى سندات ذات أحجام مختلفة لهذا السبب ذاته. عندما تُبنى الأنظمة دون أخذ سهولة الوصول في عين الاعتبار، ينتقل العبء إلى الأفراد ذوي الإعاقة للتعويض عن ذلك بأنفسهم، غالبًا عن طريق شراء تقنيات باهظة الثمن. هذا يعني أن الحلول المؤقتة ضرورية فقط بسبب عدم تفكير الأشخاص الذين صمموا الأنظمة من البداية.
بصفتي مبرمجًا مبصرًا، كنت غافلاً تماما عن عالم برامج قراءة الشاشة، حتى صادفت منشورًا بعنوان: “أنا مهندس برمجيات على وشك فقدان بصري، كيف يمكنني الاستعداد؟” لذا فإنني في إحدى الليالي مؤخرا، حاولت التنقل في موقع الويب الشخصي الخاص بي، وعيني مغمضتين، مستخدماً قارئ الشاشة الأصلي لنظام التشغيل macOS، المعروف باسم VoiceOver. سرعان ما أصابتني الصدمة عندما علمت أنه يوجد تحت الواجهة النظيفة ظاهريًا بنية HTML وهمية، نظرًا لأنني أجريت تغييرات مخصصة على موقع الويب الخاص بي – مكتوبًا بشكل أساسي بلغة تسمى Go – على مر السنين، فقد أفسدت التسلسل الهرمي لـ HTML لدرجة أنه أصبح يتعذر الوصول إليها حتى من قِبَلي أنا شخصيا.
بالقدر الذي يعد فيه تاريخ برامج قراءة الشاشة إنجازًا فائقًا للمبرمجين المكفوفين الذين ابتكروا هذا المجال، بقدر ما هو توبيخ للمبرمجين المبصرين، الذين لولا إهمالهم وتجاهلهم وتعاليهم، ربما لن تكون هناك حاجة لبرامج قراءة شاشة غير مدمجة بالأنظمة. يقول كوران أنه يتمنى باعتباره شخصًا كفيفًا، أن يذهب إلى متجر الكمبيوتر، ويشتري جهاز كمبيوتر ويبدأـ في استخدامه فقط. لا يجب أن يذهب ويشتري أو حتى يضطر إلى تنزيل قارئ شاشة آخر. لا ينبغي أن يكون المبرمجون المكفوفون هم من ينشئون الأدوات المساعِدة لأقرانهم.
لكن على الرغم من هذه الحقيقة المؤلمة، هذا هو ما فعلوه بالضبط. لقد أنشأوا وطوروا – أحيانًا فوق بعضهم البعض، وأحيانًا بشكل عشوائي ومتوازي – برامج تغير الحياة بالمعنى الحرفي. واستمر إرثهم، ليس فقط في أنظمة التشغيل التي تبنت منتجاتهم، ولكن في المبرمجين الذين جاءوا بعدهم أيضا. لقد احتاج هنتر لمتطوع يقرأ له شاشة الكمبيوتر، بينما احتاج تيه لوالده كي يقرأ له كتب البرمجة، أما اويالا، فقد كانت برامج قراءة الشاشة عوناً له منذ بداية دخوله المجال.